الشاعر والناقد الفلسطيني أيمن اللبدي:
«النسيقة» هو الاسم الذي خرجنا به لتجربة قصيدة النثر العربية
الأستاذ أيمن اللبدي في ضيافة صحيفة "الصحافة" التونسية
للحديث مع هذا الرجل متعة خاصة، ولذّة لا توصف فهو صاحب نكتة، لا تكاد البسمة تغادر وجهه، شاعر، ناقد، صحفي، صاحب مواقف ثابتة وآراء واضحة، عاشق للحرف، معانق للإبداع بكلّ أشكاله، مهووس بالكتابة مولع بالقصيد العمودي، تجلس اليه فتجده يجوب بك كل العالم من خلال معارفه واطلاعاته وسفراته التي لا تنتهي، مبدع يعيش سفرا دائما مشغول بكل قضايا شعبه وأمّته.. الحقيقة أنني لا أجد ما يمكنني ان أقدّم به هذا المبدع العربي المفتوح على كلّ الرؤى والتوجهات الأدبية، كنت وعدته بمقدمة طويلة غير أنني سأخذله وليغفر لي ذنبي هذا وسأدع اجاباته تتحدّث عنه وتقدّمه.
س1/ من خلال إشرافكم على الملحق الثقافي للحقائق و ملامستكم للواقع الثقافي العربي عن قرب، كيف يبدو لكم هذا المشهد في شتى تمظهراته ؟
أيمن اللبدي: الواقع الثقافي العربي لم يعد مسألة تحتمل مقالاً أو تصنّفها دراسة حتى لو كانت جادة ناهيكَ عن تناوله في ندوة أو حتى في معرض التفاؤل ورشة متتابعة، الأمر حقيقة خرج عن السيطرة إكلينيكيا وبات في حكم ما هو خارج الضبابية التي وصّفها لهذا الواقع عدد من الأصدقاء مؤخرا، هذا ليس تشاؤماً فحينما الفجيعة حاضرة تصبح عملية الندب ليست أكثر من تفريغ يقود إلى لحظة من تجنّب ما هو أفجع على طريقة الشعوب البدائية، يمكنك النظر إلى عزم القوة من حول هذا الواقع لتجده في صورة غاية في التعقيد والتركيب، مفردات القضايا التي بات قاموس هذا الواقع مجبراً على التعامل معها أصبحت تثير فيه رغبة بالجنون أكثر من رغبة الفهم، ودينامكية واقع الآخر في كل قضاياه أصبحت تصيب واقعنا بالدوران والهستيريا.
المسائل الشائكة والأسئلة الأكثر خطورة ما زالت تتوالد وتتضاعف، عن ماذا تريدنا أن نباشر التوصيف وعن ماذا يمكن لنا أن نسكت مؤقتاً وربما نهائياً لأن لا جواب حاضر؟! خذ جملة الالتزام والأصالة والحداثة وما بعد الحداثة والعولمة والعالمية والهزيمة والاستلاب وما بعد الفكر ونهاية التاريخ وعصر ثنائية ( الكلمة /السوق ) ! عن ماذا يسهل الولوج في هذه المتمرحلات داخل هذه الغيمة القاتمة التي خرجت لتوها بعد تفاعل نووي قاهر غير مسبوق؟!
وإذا كان هذا هو الحال يا صديقي كما نلمسه عن قرب على النحو الذي وصفت آنفاً...، فإن هذا الواقع قد استطال في رحم الزمن ليشكِّل تاريخاً حيَّاً متواصلاً دون كثير إثارة من حوله لفزع أو لريبة عند كثير من عمد الثقافة العربية وكأن تماهي قدر السياسي مع الثقافي أصبح من نمط المسلّمات، ولذلك غاب عن هذا الواقع وعن تمظهراته المختلفة زخم الرغبة بالخلاص لتستبدل ذلك بنمط من القدرية في الاستسلام لمصير هذا الواقع، هذا الواقع الذي شغله الآخر بطلباته وأوامره عن نوازعه الخاصة فأصبح شكلاً من أشكال الدونية الممسوخة في قاع سيادة المختلط من هذا الآخر السيِّد.
هذه المعادلة القائمة حالياً غدت قاعدة عامة إلا من بعض الاستثناءات وهذه الاستثناءات جمعت نفسها في نقيضين، الأول يبشَّرنا بثقافة الهزيمة والاستسلام ويستنفر خيله ورجله لهذا المسترقبِ عندهم وفي عرفهم وما عُلفوا عليه، ويجدون لهم أسماء ومسمياتٍ مختلفة جوهرها واحد وإن استمرأوا مثلاً منحوتات الليبرالية والديموقراطية والحرية وإلى آخر المصفوفات، وهؤلاء هم قوة السحب الإضافية نحو الهاوية في هذا الواقع المستلب تماماً.
أما الثاني فهو لا زال قادراً على التنفُّس رغم تشبّع الهواء بسقط التراب ولا زال قادراً على الحلم مهما كانت تكاليفه ومهما صعبت أجندة مواعيده، لا زال منتظراً خلاصه وخلاص واقعه وخلاص أمته العظيمة التي مهما بلغ الجحود والإسفاف في العقل المعاصر أياً كان دافعه لن يجرؤ على إنكار هذا الدور الحضاري الذي لعبته هذه الأمة وواقعها الثقافي يوماً ما والذي تحاول قوى النورانية أن لا تكفر به وأن تجد له باباً خلفيا لعودة ما، ولذا نشأت كلُّ التيارات الحولية المؤثرة في هذا الواقع مؤخراً من حول هذين النقيضين وما يحاولانه.
الباقي هو مجرّد تفاصيل بسيطة أو مركبة لا يهم طالما أن القوى المتنازعة على هذا الإطار وهذه الصورة قد تم تحديدها، سواد مائل إلى القتامة في طرف، وبياض مائل إلى النورانية في طرف مقابل، والأعظم الأغلب ترهقه الصفرة وسكرة الموت الحيّ، وطالما أنك سألتنيه من حول ملحق الحقائق الثقافي فإني أطمئنك يا صديقي بأنا نفتتح في هذا الملحق يومنا من أجل النورانيين ونجتهد أن لا نخيّب ظنهم في مواعيدنا وآمل أننا لا زلنا قادرين على نقش حرف نوراني واحد فهذه قيمة عظيمة وغاية سامية....الحقائق هذه رسالتها وهذه مهمتها كما أرادها مؤسسها د.زياد الصالح منفتحة وخلّاقة للجميع على حد سواء مفكرين وكتاب ناشئين ولكل العرب ولكل النورانيين منهم بيتهم الذي نحرسه لهم....!
س2/ وفي نفس السياق، ما السبيل للحفاظ / في رأيكم / على ذاتية و خصوصية عربية تجاه هذا الراهن الذي ينبىء بالانصهار الكامل في الآخر ؟
اللبدي: أنت يا صديقي تطلب عصا موسى أو ربما (من كان عنده العلم) حتى يأتينا بالحلول وعرشها قبل أن تطرف لنا جفن في هذه المسألة، ولست بأيٍّ من هذين ولكني أرى رغم ذلك سبيلا واحداً في هذه المرحلة تحديداً يقوم على قاعدة أشبه بالتي أعياها اليابانيون طلباً حتى انقادت لهم، ألا وهي احترام الذات مهما كانت الهزيمة كبيرة ومهما كانت الصورة قاتلة، لا تستغرب ولا يستغربنَّ أحد من هذا الجواب، نعم احترام الذات هو المدخل الوحيد نحو توظيف الزمن في عملية الأسئلة والشروع في البحث عن الأجوبة المناسبة، دون احترام لهذه الذات لن تكون هذه العملية جدية وستبقى دوما عملية معلَّقة على دينامية الانهيار، وفي لحظة ما ستصل إلى مرحلة الذوبان في هذا الآخر وليس الانصهار، لأن الانصهار يستدعي تداخلاً في الجزيئات وتركيب جزيء جديد ربما يكون ذا جدة في كلِّ ما هو عليه ومزية فيه، أما الذوبان فهو بقاء ما أنت عليه محتوىً في محيط الآخر دون رأي نعم ودون فرصة نعم ودون جسور لمستقبل ولا لماضٍ.
بعد أن ننجح في مران احترام الذات يمكننا أن نسأل هذه الذات باحترام أيضاً وأن نقدِّم لها هذه الأسئلة ونحن نعزم أن نحترم إجاباتها مهما كانت، والاحترام يا صديقي هواء لا يمر دون حريّة ...نعم حريّة حقيقية غير مزيفة ولا مواربة، هذه الحرية هي مرادف الكرامة التي خلق الله الناس عليها وحملهم بعد ذلك في البرِّ والبحر، وإلا فلا قيمة للحملان ولا معنىً دونها لهذا الخلق، في هذه فقط يمكن لنا أن نأمل فعلاً باستحضار عصا موسى لعرس الأجوبة الذي إن تمكنا منه ومهما كانت تكالبفه، يمكن لنا فعلاً أن نقول بأننا في مشروع تصالحي مع الذات ومع الآخر تنتج عنه آمال عريضة باستخدام الباب الخلفي الذي سيبقى دوماً حاضراً ما بقي في النورانيين نفس واحد، لأنه الأمل الذي تنعدم بغيابه فحوى الحياة.
س3/ لكم تجربة ثرية في الكتابة الشعرية، و لكن المتأمل في مدونتكم يلحظ أنها في أغلبها ملتزمة بالإيقاع " الكلاسيكي " هل في ذلك اختيار ؟
اللبدي: القصيدة تأتي كما تشاء لا اشتراط في ذلك ولا خيار طبعا هذا يصدق على سالف مراحل التجربة حتى عهد قريب أو مراحل (الشاعرية) التي نفهمها والتي دوّنا فيها مطالعتنا الأخيرة حول الشعرية والشاعرية وطبّقنا ذلك على تجربتنا الخاصة إلى حد كبير، ولكن في الآونة الأخيرة نعم ، أصبح لنا الخيار الحقيقي في القصيدة ونختارها دوما على النحو الذي وصفت....حقيقة ليس إقلالاً من شأن الإيقاعات الأخرى التي أراك تقصدها هنا وتحديداً (النسيقة)، هذا شأن آخر ...أنا شخصيا اعتبرت قصيدة النثر الحقيقية أو (النسيقة) بمثابة انتاج غير سهل في الشعرية العربية، حقيقة هو إنتاج من الصعوبة بمكان إذا أريد له أن يكون حقيقيا بحيث هو مقصلة للنص والشاعر إن لم يخرج ناضجاً، ومن هنا فإني أراه تحدياً كبيراً ربما لم يحن أوان خوض غماره بالنسبة لي ولذلك لم أختره حتى الساعة....هذا من جهة.
من جهة أخرى أحاول جهداً في مسألة التنويع والتجارب في كل من قصيدتي (العمود) وقصيدة (السطر الشعري) وأراهما قابلتين لإنتاج سلالات حديثة ومتعددة، لم تفرغا بعد من إنجازهما ومن سابق القول الحكم عليهما بأنهما قد استوفتا نهاية الصناعة الشعرية والإبداع الفني فيهما، لقد صدّرت مجموعتي الأخيرة (انتفاضيات) بتجارب على بعض التفاعيل في قصيدة السطر الشعري وأضاء من حول هذه التجربة أخي وصديقي الشاعر والعروضي أيضاً محمود مرعي، كما أن نقاشات كثيرة قد تبادلناها مع عدد من الأخوة حتى في وزن العمود وكان أهمها استخدام التفعيلة (فاعلاتك) وإحياء المتوافر وكذلك استخدام (متفاعلن) في البسيط عوضاً عن (مستفعلن)، هذا في شأن البناء المعلوم.
أما في شأن البناء الخاص فقد استرعت انتباهنا وجزءا من تجربتنا قضية القصيدة الكاريكاتور والإمكانيات الهائلة التي تتيحها والتي طرحنا فيها شخصية (أبو الحسرة الأيوبي) اعتماداً على مزج صور الخبب مع المتدارك بأشكالٍ مختلفة للحصول على نصٍ جديد مهمته افتتاح تجربة جديدة تماثلها في الفكرة العامة تجربة الراحل حسين البرغوثي في قصيدة (الكولاج) كما رأى مرة أخي د.تيسير مشارقة، أو هي مقاربة حنظلة الشهيد ناجي العلي في فن الكاريكاتور، هنا تتولد هذه جميعا إن لاحظت عن الإيقاعات الكلاسيكية التي قصدت وهناك ما لا يتسع المجال لتعداده في هذا الوقت القصير، المؤكد أن في هذا الكلاسيك ثمة ثروات هائلة لا زالت تنتظر الكشف عنها قبل الخروج إلى أي أرض جديدة، وهل يضير يا صديقي ...بعض الكلاسيكيات أصبحت نوعاً ما ضمن المقدس وفوق التاريخيات.
*تحدثتم عن أبي حسرة الأيوبي عرضا ، ماذا لو تتوقف بنا عند هذه التجربة بأكثر تفصيلا ؟
أما صديقنا أبو الحسرة الأيوبي فقد قدمنا لقضيته حينما أطلقنا هذه الشخصية الكاريكاتورية في النص، أردناها قصيدة كاريكاتور تحتفي بقانون خاص لها، قلت في تقديمي ما أختصر بعضه هنا << اليوميات هي استجابة لعاملين معا أولهما أن القصيدة العربية باتت بعيدا وللأسف الشديد عن المتلقي العربي بحيث على الأغلب انفصلت عن مسارها الموروث وخاضت معترك تجريبية غرائبية معجونة بكثير من الافتراضات المقتبسة عن غير واقعها تارة وبنوع من النزوع إلى اللهاث خلف الفضاء المفتوح دون تسلسل بنائي مترابط ذي مرجعية فنية أصيلة في حياة هذا المتلقي العربي ، ومن ناحية أخرى فإن نزعة الكولاج تلك أو فن اللصق بصريا عبر الفن التشكيلي أحدثت حقا إضافة جمالية كونها استخدمت أدوات من ذات التسلسل وبذات الشروط الفنية التي يسمح بها الفن ، هذا بالضبط هو ما يحدث عند تطبيق الموضوع على القصيدة العربية مفتوحة على أسس العمود أو أسس التفعيلة أو حتى في شكل النثر المتدفق والمحمّل بعضا من قماشة الشعر ، وحينما توغل القصيدة العربية في الافتراضية عبر تقديم نصف قصيدة عبر اللغة وأدوات فن الشعر الأخرى وإن انتهى النص على البياض وُطلب من القارئ العربي تلمّس وتخيّل بقية العلائق واستجلاب الجماليات والرسالة بعد ذلك دونما معيار أو معين أو سابق دربة أو تجربة أو حتى مرجعيات من ذات النص تصبح القطيعة بين المتلقي وهذا النص قائمة لا محالة مهما تجاهلنا أثر ذلك واستعلينا بطلب فهم ما يقال طالما لا نحسن نحن القول أولا !
**