احتماله صلى الله عليه وسلم الأذى في تبليغ الدعوة :
وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في التمسك بالحق والثبات عليه وعدم
التضعضع أمام الباطل وسلطانه، فعن عقيل بن أبي طالب قال :جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا :
إن ابن أخيك يؤذينا في نادينا وفي مجلسنا فانهه عن أذانا، فقال لي :يا عقيل ائت محمدا قال فانطلقت إليه،
فجاء في الظهر من شدة الحر فجعل يطلب الفيء يمشي فيه من شدة حر الرمضاء، فأتيناهم،
فقال أبو طالب :إن بني عمك زعموا إنك تؤذيهم في ناديهم وفي مجلسهم، فانته عن ذلك،
فحلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء فقال : أترون هذه الشمس؟
قالوا :نعم، قال :ما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا منها شعلة،
فقال أبو طالب :ما كذبنا بن أخي قط فارجعوا" ، يبين لهم شدة تمسكه بالحق الذي هداه الله إليه
واستحالة تركه أو ترك الدعوة إليه، فكما أنهم عاجزون عن أن يشعلوا شعلة من الشمس فهو لا
يمكنه ترك ما أوحاه الله إليه، وإزاء هذا الإباء والثبات، عادته قريش وآذوه وصدوا الناس عنه،
حتى بلغ بهم الأمر أن يتعاقدوا ويتعاهدوا على مقاطعة الرسول والمؤمنين ومن يسانده من أقربائه
حتى لو كانوا على دين قريش، فقاطعوهم مقاطعة اجتماعية لا يتزوجون منهم ولا يزوجونهم
ولا يكلموهم ولا يجالسوهم وقاطعوهم مقاطعة اقتصادية لا يبيعون منهم ولا يبيعون لهم،
وكتبوا يذلك صحيفة وعلقوها في سقف الكعبة، وظلت هذه المقاطعة ثلاث سنوات،
وانظر تصويرا لتلك الحالة الصعبة التي كان فيها المسلمون، يقول سعد بن أبي وقاص :
لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجت من الليل أبول، فإذا أنا أسمع قعقعة
شيء تحت بولي، فنظرت فإذا قطعة جلد بعير، فأخذتها فغسلتها ثم أحرقتها،
فرضضتها بين حجرين ثم استففتها، فشربت عليها من الماء فقويت عليها ثلاثا" ،
"وكانوا إذا قدمت العير مكة يأتي أحدهم السوق ليشتري شيئا من الطعام لعياله، فيقوم أبو لهب عدو الله،
فيقول :يا معشر التجار :غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئا، فقد علمتم ما لي
ووفاء ذمتي، فأنا ضامن أن لا خسار عليكم، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافا،
حتى يرجع إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع، وليس في يديه شيء يطعمهم به"
فما رده ذلك عن دعوته، وقد بلغ الإيذاء بأصحابه مبلغه حتى اضطرهم ذلك إلى مغادرة الأوطان
والهجرة منها، وترك التجارات والأموال والأهلين، وانتهى الأمر به صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة
وهو صابر محتسب صامد كالطود الأشم، تميد الجبال الشم وهو صلى الله عليه وسلم ثابت لا ينحني،
ولم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يساوم على دعوته، أو يقبل بما يدعونه من الحلول الوسط،
بأن يكتم بعض ما أنزل الله إليه في سبيل أن يمتنع الكافرون عن معاداته أو محاربته، أو أن يلين في الحق
في مقابل أن يلينوا معه في مواقفهم، بل رفض كل ذلك وظل صامدا فصلى الله تعالى عليه وسلم
وقد سجل القرآن الكريم هذا الموقف بقوله تعالى :" وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ" [القلم :9 ]،
وقال لهم في قوة وصلابة في الحق كما أمره ربه :
" قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ
وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ" [الكافرون :1-6]
وعرضوا عليه الأموال والنساء والملك، فيأبى كل ذلك ولسان حاله يقول :والله لو وضعوا الشمس
في يمني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله تعالى أو أهلك دونه.
ولما مكنه الله تعالى وأظهره لم يطغى أو يظلم أحد ولم يبغ العلو في الأرض وإنما جاهد في الله
حق جهاده، وبذل نفسه في سبيل ذلك، وسنَّ في ذلك سننا هي في غاية العدل والكمال،
فلا ظلم ولا اعتداء ولا إفساد، ولا رغبة في العلو في الأرض بالباطل، ولا رغبة في التوسع على
حساب الشعوب، بل كان يدعوهم إلى الله تعالى لا إلى نفسه ولا إلى قومه، حتى كان العربي والعجمي
في كنفه سواء، فهذا بلال الحبشي مؤذن لصلاة المسلمين بين يدي رسول الله، وهذا صهيب الرومي
الذي ترك ماله لقريش حتى لا يمنعوه من الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاه
الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول له :ربح البيع، وهذا سلمان الفارسي الذي يقول فيه الرسول
سلمان منا أهل البيت، وكان يدعو الناس فمن قبل منهم دعوة الله كان واحدا من المسلمين له ما لهم
وعليه ما عليهم من غير تفرقة بلون أو لغة أو جنس ، وهذه هي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم
لمن خرج مجاهدا في سبيل الله تعالى مما يبين بكل وضوح نبل غاية الجهاد وأنه جهاد لإحقاق الحق
وليس للعلو في الأرض أو الإفساد فعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال :
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله
ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا،
ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال
أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل
منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم
ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب
المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء
إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم،
فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم ..الحديث "
فبأبي أنت وأمي يا رسول الله